الخميس، 29 يونيو 2017

"الصوت الحَسن،  رديفٌ للمُحيا الحَسن"
"مما يُروى في الصوت الحسن و أثره على النفس "
.
.
قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: "يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ"
.
.
هو الصوت الحسن !
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أتدرون متى كان الحداء؟
قالوا: لا بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله.
قال: إن أباكم مضر خرج في طلب مال له، فوجد غلاما قد تفرقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء.
.
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، وقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع، وتجتمع عليه الخلق، فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة، وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدة فكانتا تضبطان جسده ضبطا شديدا خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب، وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته.
.
.
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: بلغنا أن الله تعالى يقيم داود عليه الصلاة والسلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم.
.
.
وقال سلام الحادي للمنصور، وكان يضرب المثل بحدائه: مر يا أمير المؤمنين بأن يظمأوا إبلا ثم يورودها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها، وتترك الشرب.
.
.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم، وتنمو له النفس ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف له الحركات، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء، حتى يرقص ويطرب.
.
.
اما الأخيرة انا مجرب اذا سمعت صوتاً رخيماً قراره وقار والله يسري في جسمي سريان الماء في جدوله 😴❤
.
.
وزعمت الفلاسفة: أن النغم فصل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح. ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان، واستراحت إليها أنفسهم، وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه، ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد إلا وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح ما خلا السماع، فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح، وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويتذكر نعيم الملكوت، ويمثله في ضميره، ولأهل الرهبانية نغمات، وألحان شجية يمجدون الله تعالى بها، ويبكون على خطاياهم، ويتذكرون نعيم الآخرة.
.
.
وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد، وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر نعيم الآخرة، وقد تحن القلوب إلى حسن الصوت حتى الطير والبهائم، وكان صاحب الفلاحات يقول: "إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء"
.
.
قال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت
إصغاؤه إلى حنين الصوت
.
.
وزعموا أن في البحر دواب ربما زمرت أصواتا مطربة، ولحونا مستلذة يأخذ السامعين الغشي من حلاوتها، فاعتنى بها وضعة الألحان بأن شبهوا بها أغانيهم، فلم يبلغوا، وربما يغشى على سامع الصوت الحسن للطافة وصوله إلى الدماغ وممازجته القلب. ألا ترى إلى الأم كيف تناغي ولدها، فيقبل بسمعه على مناغاتها، ويتلهى عن البكاء، والإبل يزداد نشاطها وقوتها بالحداء، فترفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة، وتتبختر في مشيتها.
.
.
وزعموا أن السماكين بنواحي العراق "دار السلام" يبنون في جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فتجتمع السمك في الحفائر، فيصيدونه وقد نبهت على ذلك في باب ذكر البحار، وما فيها من العجائب.
.
.
والراعي إذا رفع صوته، ونفخ في يراعته تلقته الغنم بآذانها، وجدّت في رعيها، والدابة تعاف الماء، فإذا سمعت الصفير بالغت في الشرب وليس شيء مما يستلذ به أخف مؤنة من السماع.
كان عندنا راعي معاه ناي الله المستعان اذا سردة نوتته سبحان الوهاب فقده الله يعافيه إن كان حي ويرحمه إن مات اسمه حسن 😔💔
.
.
و قال أفلاطون : من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت.
.
.
وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلل به المريض، وتشغله عن التفكير، ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني:
وسماع مسمعة يعللنا
حتى ننام تناوم العجم
.
.
وحكي أن البعلبكي مؤذن المنصور رجع في أذانه ليلة وجارية تصب الماء على يد المنصور، فارتعدت حتى وقع الأبريق من يدها، فقال له المنصور: خذ هذه الجارية، فهي لك ولا تعد ترجع هذا الترجيع.
.
.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة في قينة:
ألم ترها لا أبعد الله دارها
إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع
تدير نظام القول ثم تردّه
إلى صلصل من صوتها يترجّع
.
.
وبعد، فهل خلق الله شيئا أوقع بالقلوب، وأشد اختلاسا للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر:
ربّ سماع حسن
سمعته من حسن
مقرّب من فرح
مبعّد من حزن
لا فارقاني أبدا
في صحة من بدن
.
.
وهل على الأرض من جبان مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخرّ سرجه
هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا وقد شجعت نفسه، وقوي قلبه.
أم هل على الأرض من بخيل قد انقبضت أطرافه يوما يغني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة
إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه.
.
.
واختلف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، فمن حجة من أجازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «شن الغطاريف على بني عبد مناف، فو الله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام» .
.
.
واحتجوا في أباحة الغناء، واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟
قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لم نفعل. قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم القول، ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحييكم
ولولا الحبّة السمراء ... لم نحلل بواديكم
.
.
ولا بأس بالغناء إذا لم يكن فيه أمر محرم، ولا يكره السماع عند العرس والوليمة والعقيقة وغيرها، فإن فيه تحريكا لزيادة سرور مباح أو مندوب، ويدل عليه ما روي من إنشاء النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قلن:
.
.
طلع البدر علينا
من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
.
.
ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحرام حتى أكون أنا التي أسأمه.
ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين من حديث عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام منى يدففان ويضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.

.
.
وعن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للنابغة الجعدي:
أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك، فأسمعه كلمة، فقال له، وإنك لقائلها ؟!
قال: نعم.
قال: طالما غنيت بها خلف جمال الخطاب .
.
.
وعن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فسمعته يغني بالركابية يقول:
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما
قضى وطرا منها جميل بن معمر
وكان جميل بن معمر من أخصّاء عمر قال، فلما استأذنت عليه قال لي : أسمعت ما قلت؟
قلت: نعم .
قال: إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم .
.
.
وقد أجازوا تحسين الصوت في القراءة والأذان، فإن كانت الألحان مكروهة، فالقراءة والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن، وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور.
.
.
ومن حجة من كره الغناء أنه قال: أنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهذا باطل في أصله وتأولوا في ذلك قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً"

.
.
وأخطأ من أوّل هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير، والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه، وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا.
.
.
وقال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟
فقال: نعم العون على طاعة الله تعالى يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه.
قال: ليس عن هذا أسألك.
قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل.
قال: وكيف يغني؟
فجعل الرجل يلوي شدقيه ويفتح منخريه، فقال الحسن: والله يا ابن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل بنفسه هذا أبدا، فلم ينكر الحسن عليه إلا تشويه وجهه وتعويج فمه.
.
.
وسمع ابن المبارك سكران يغني هذا البيت:
أذلّني الهوى فأنا الذليل
وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج دواة وقرطاسا، وكتب البيت، فقيل له:أتكتب بيت شعر سمعته من رجل سكران؟!
فقال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة.
.
.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان يغني على شرابه بقول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فأخذه العسس ليلة وحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له، فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟!
قالوا: أخذه العسس، وهو في الحبس، فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع إذنه، وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك، فأقبل عليه عيسى بن موسى، وسأله عما جاء بسببه، فقال:
أصلح الله الأمير: إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسه، فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة، فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له، فلما رآه أبو حنيفة قال له: هل أضعناك يا فتى؟
يعرض له بشعره الذي ينشده، قال: لا والله ولكنك بررت وحفظت.
.
.
وكان عروة بن أدية ثقة في الحديث روى عنه مالك بن أنس، وكان شاعرا مجيدا لبقا غزلا، وكان يصوغ ألحان الغناء على شعره وينحلها للمغنين. قيل: إنه وقفت عليه إمرأة يوما وحوله التلاميذ، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبي بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتّقد
.
.
وكان عبد الملك الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة.
قيل: إنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فأقام يسمع غناءها فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تدخل، وتسمع، فأبى، فلم يزل به حتى دخل فغنته، فأعجبته، ولم يزل يسمعها، ويلاحظ النظر حتى شغف بها، فلما شعرت بلحظه إياها غنته:
رب رسولين لنا بلغّا
رسالة من قبل أن نبرحا
الطرف للطرف بعثناهما
فقضيّا حاجة وما صرّحا
قال: فأغمي عليه "تخرفن 😂😂😂😂💔"، وكاد يهلك، فقالت له: إنّي والله أحبك !
قال: وأنا والله أحبك
قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك !!
قال: وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة.
أما سمعت قوله تعالى: "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"
ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها
فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم إنّما
سبل الضلالة والهدى أقسام
"قد اصاب يرحمه الله إن الصبابة داء😩💔"
.
.
وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية - رضي الله عنه - بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه ما يستحقه، فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوج معاوية - رضي الله عنه - فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية ، فقالت: هلم، فاسمع ما في منزلك الذي جعلته من لحمك ودمك، وأنزلته بين حرمك، فجاء معاوية، فسمع شيئا حرّكه وأطربه، فقال: والله إني لأسمع شيئا تكاد الجبال أن تخر له، ثم انصرف، فلما كان في آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر، وهو قائم يصلي، فنبه فاختة، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل. "الله اكبر"
ثم إن معاوية أرق ذات ليلة، فقال لخادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله بن جعفر، وأخبره إني قادم عليه، فذهب وأخبره، فأقام عبد الله كل من كان عنده، فلما جاء معاوية لم ير في المجلس غير عبد الله .
فقال: مجلس من هذا؟
قال عبد الله: هذا مجلس فلان يا أمير المؤمنين .
فقال معاوية: مره، فليرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل واحد.
قال: مجلس من هذا؟
قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين.
قال: إن أذني عليلة، فمره أن يرجع إلى مجلسه، وكان مجلس بديح المغنّي، فأمره عبد الله بن جعفر، فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية:
داو أذني من علتها، فتناول العود وغنى وقال:
ودّع سعاد فإنّ الرّكب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
قال: فحرك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال له معاوية:
لم حركت رأسك يا ابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت لأبليت، ولو سئلت لأعطيت، وكان معاوية قد خضب.
قال، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكان عند معاوية جارية أعز جواريه عليه، وكانت تتولى خضابه، فغنى بديح وقال:
أليس عندك شكر للتي جعلت
ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم
وجددّت منك ما قد كان أخلقه
صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية - رضي الله عنه - طربا شديدا، وجعل يحرك رجله، فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إنك سألتني عن تحريك رأسي، فأجبتك وأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال: كل كريم طروب، ثم قام، وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتي له إذني، ثم ذهب، فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاصة كسوته، وإلى كل رجل منهم بألف دينار، وعشرة أثواب.
.
.
وحدّث ابن الكلبي، والهيثم بن عدي قالا: بينما عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذا سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا صوت رقيق لقينة تغني وتقول:
قل لكرام ببابنا يلجوا ...ما في التّصابي على الفتى حرج «٤»
فنزل عبد الله عن دابته، ودخل على القوم بلا إذن، فلما رأوه قاموا إجلالا له، ورفعوا مجلسه، فأقبل عليه صاحب المجلس، وقال يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدخل مجلسنا بلا إذن، وليس هذا من شأنك؟ فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا. فولجنا، فإن كنا كراما، فقد أذن لنا، وإن كنّا لئاما خرجنا مذمومين، فقبل صاحب المنزل يده، وقال: جعلت فداك، والله ما أنت إلا من أكرمالناس، فبعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فحضرت ودعا بثياب وطيب، فكسا القوم، وطيبهم، ووهب الجارية لصاحب المنزل، وقال: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
.
.
وسمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال:
اطلبوه، فجاءوا به، فقال: أعد عليّ ما غنيت به، فغنى وأحفل . وكان سليمان أغير الناس، فقال لأصحابه:
كأنها والله جرجرة الفحل في الشوك، وما أظن أنثى تسمع هذا إلّا صبت إليه، ثم أمر به فخصي... انتهى...
.
.
المصدر :
المستطرف في كل فن مستطرف
المؤلف: شهاب الدين محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي أبو الفتح (المتوفى: 852هـ)
.
.
"المَسّعُودْ|هُمَٰيُونْ"
"وحيٌ منْ التَاريخ"

الثلاثاء، 13 يونيو 2017


"السُّلْطَانُ المُبجّل بَرَكَةُ خان بن تولى بن چنكيز خان التتاري المغولي رحمه الله"
من هو؟!
اولاً سرد مُختصر لتاريخ المغول و من اسلم منهم و من بقي،  بسم الله :

.
.
و مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل، لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي:
أ- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو جوشى أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر أرتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية- نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي- فلما مات جوشى خلفه أحد أولاده الذي تلقب بخان القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده بركة خان سنة 654 هـ ، وكان بركة هذا مسلما لذلك عمل على نشر الاسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين:
أولاهما: محاربته لابن عمه هولاكو، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية هولاكو الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد بركة وحلفائه.
ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر بيبرس، والناصر قلاوون وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار .
.
.
2- أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد هولاكو وهو السلطان تكودار بن هولاكو الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور قلاوون يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل- كما هو واضح من رسالته هذهـ عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان قلاوون، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة. ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ .
.
.
في سنة 693 هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة: " وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه نوروز، ونشر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار " ، وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة.
لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أله الشام - ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا - كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى بهـ ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة703هـ .
وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى إلياسا أو اليساق وكانوا يتحاكمون إليه - وسيأتي عرض هذا الموضوع إن شاء الله - وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور، فأوقع إسلامهم ونطقهم بالشهادتين شبهة لدى كثير من الناس - وفيهم بعض العلماء - حول جواز قتالهم وهم على هذه الحال. وقد حسم ذلك ابن تيمية - كما سيأتي.
.
.
بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه أولجاتيو، خدابنده، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله " .
ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته حتى إنه غير الخطة وأسقط اسم الخلفاء سوى علي - رضي الله عنهـ، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ .
ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة وهو ابن المطهر الحلي الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد ، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة- دعا ابن تيمية-رحمه الله- إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ".
وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد- وهو صغير- الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي- وفرح الناس بذلك .
هذه خلاصة تاريخ المغول، وما يتعلق منه بأحوال العصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كانت له جهود عظيمة في صد هذا الخطر الزاحف، كما كانت له مواقف عظيمة منهم. [ 1 ]
.
.
"الصراع بين هولاكوا و بركة خان"
.
.
وصلت الأخبار إلى هولاكو بوفاة أخيه الأكبر منكو خان وتنازع أخوية الآخرين "قوبيلاي" "واريق بوقا" على ولاية عرش المغول فوجد نفسه مضطراً إلى العودة إلى مقره الرئيسي مدينة مراغة ليكون قريباً من مجرى الحوادث في منغوليا، ليسهل عليه التحرك إلى منغوليا إذا دعته الحاجة إلى ذلك، وبالرغم من أن هولاكو هو الابن الرابع لتولوي خان من حقه أن ينافس أخويه في تولي ذلك المنصب، غير أنه لم يولي ذلك المنصب اهتماماً، ولعل ذلك راجع إلى ما تهيأ له من النجاح والظفر في ايران والعراق والشام ، فضلاً عن خوفه من ازدياد هوة الخلاف وتعقيد الأمور ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن أخاه قوبيلاي أجدر بتولي العرش من أخيه الآخر ارقيق بوقا وحرص على أن يحضر الانتخابات ليزكي ترشيح أخاه قوبيلاي خاناً أعظم للمغول ومن ناحية أخرى لاننسى ما كان من ازدياد العلاقات سوءا بين هولاكو وابناء عمومته خانات القبيلة الذهبية "القبجاق"،
الذين باتوا يهددون ممتلكاته ـ وهذا صرفه عن مدّ الامدادات اللازمة للمغول في بلاد الشام، وكذلك لم يستطع قيادة جيش كبير للانتقام من هزيمة معركة عن جالوت ورد الاعتبار والهيبة للمغول ـ إذ أن بركة خان زعيم القبيلة الذهبية كان يميل إلى المسلمين في الوقت الذي كان هولاكو وحاشيته يعملون جاهدين على ارضاء المسيحيين واستمالتهم إليهم وتطور الأمر ببركة إلى أن اعتنق الدين الإسلامي، وتعرض هولاكو للتقريع والتأنيب من قبله وصار بركة يتهدده بالانتقام منه بسبب ما اقترفه من مذابح راح ضحيتها ألوف من المسلمين، وما أنزل بهم من دمار وخراب، فضلاً عما تعرض له الخليفة العباسي من الهوان وتجرئه على قتله، لذلك كثيراً ما وقع الاحتكاك بينهما عند جبال القوقاز التي تفصل بين نفوذهما، بل ذهب بركة خان إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث قام باضهاد القبائل المسيحية التي كانت تسكن تلك المناطق وذلك رداً على ما سلكه هولاكو من سياسية تعسفية تجاه المسلمين بقصد اذلالهم، ويبدو أن هولاكو أراد أيضاً حداً لتصرفات التهكم والانتقام التي مارسها بركة ضده، فحاول أن يفرض سلطانه على الجانب الشمالي لجبال القوقاز، ولكن بركة أعد لذلك الأمر عدته، واستطاعت جيوشه أن تنزل بجيوش هولاكو هزيمة ساحقة وهناك أسباب أخرى ذكرت في دفع هولاكو للعودة إلى عاصمته بالمشرق فإن الذي يهمنا قوله هو أن ذلك الحدث المفاجيء كان تحولاً خطيراً، غير مجرى سياسة المغول التوسعية التي جعلت هولاكو لم يعد إلى فارس بمفرده، بل عاد ومعه جموع من عساكره، وهذا مما ساهم في تحقيق النصر في معركة عين جالوت. [ 2 ]
.
.
"بعض اخبار بركة خان"

ذُكر في احداث سنة (سُنَّةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ) :

وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ بَرَكَةَ خَانَ إِلَى الظَّاهِرِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ عَلِمْتَ مَحَبَّتِي لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِمْتَ مَا فَعَلَ هُولَاكُو بِالْمُسْلِمِينَ، فَارْكَبْ أَنْتَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَآتِيهِ أَنَا مِنْ نَاحِيَةٍ حَتَّى نَصْطَلِمَهُ أَوْ نُخْرِجَهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَأَيًّا مَا كَانَ أَعْطَيْتُكَ جَمِيعَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ. فَاسْتَصْوَبَ الظَّاهِرُ هَذَا الرَّأْيَ، وَشَكَرَهُ وَخَلَعَ عَلَى رُسُلِهِ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِيهَا الْتَقَى بَرَكَةُ قَانَ وَهُولَاوُو وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جُيُوشٌ كَثِيرَةٌ، فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَ هُولَاكُو هَزِيمَةً فَظِيعَةً، وَقُتِلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَغَرِقَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ، وَهَرَبَ هُوَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا نَظَرَ بَرَكَةُ خَانَ إِلَى كَثْرَةِ الْقَتْلَى قَالَ: يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ يَقْتُلَ الْمَغُولُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَكِنْ كَيْفَ الْحِيلَةُ فِيمَنْ غَيَّرَ سُنَّةَ جِنْكِزْخَانَ؟ ! ثُمَّ أَغَارَ بَرَكَةُ خَانَ عَلَى بِلَادِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَصَانَعَهُ صَاحِبُهَا، وَأَرْسَلَ الظَّاهِرُ هَدَايَا عَظِيمَةً إِلَى بَرَكَةَ وَتُحَفًا كَثِيرَةً هَائِلَةً. [ 3 ]

,
,
ونتم اخباره في احداث سنة (ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ) :

وَفِيهَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ سُلْطَانَ التَّتَارِ هُولَاكُو هَلَكَ إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِمَرَضِ الصَّرَعِ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ، وَدُفِنَ بِقَلْعَةِ تَلَا، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ وَاجْتَمَعْتِ التَّتَارُ عَلَى وَلَدِهِ أَبْغَا، فَقَصَدَهُ الْمَلِكُ بَرَكَةُ خَانَ، فَكَسَرَهُ وَفَرَّقَ جُمُوعَهُ، فَفَرِحَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَزَمَ عَلَى جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِيَأْخُذَ بِلَادَ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ فِي الْإِقْطَاعَاتِ.
وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ سَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ مُحَمَّدَ بَرَكَةَ قَانَ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحَمَلَ وَالِدُهُ الْغَاشِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيَسْرِي الشَّمْسِيُّ حَامِلٌ الْجِتَرَ، وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ وَالْوَزِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ حِنَّا رَاكِبَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ رُكْبَانٌ وَبَقِيَّتُهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى شَقُّوا الْقَاهِرَةَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَتَنَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ الْمَذْكُورَ، وَخَتَنَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. [ 4 ]
.
.
ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف، والمشايخ من الآفاق والأكناف، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم طرائق توحيدهم ويقينهم، وبذل في ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء وعظم شعائر الله تعالى وشرائع الأنبياء، فكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك بعده وجاني بك خان مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والسيد جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من فضلاء الحنفية والشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي، ومولانا أحمد الجندي، رحمهم الله تعالى فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات مجمع العلم ومعدن السعادات واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء والنبلاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة، في مدة قليلة، ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا في قراها وبين بنيان سراي وخراب ما بها من الأمكنة، ثلاث وستون سنة، وكانت من أعظم المدن وضعاً، وأكثرها للخلق جمعا حكى أن رجلاً من أعيانها هرب له رقيق، وسكن في مكان منحى عن الطريق، وفتح له حانوتاً، يتسبب فيه ويحصل له قوتاً، واستمر ذلك المهين، نحواً من عشر سنين، لم يصادفه فيها مولاه، ولا اجتمع به ولا رآه، وذلك لعظمها وكثرة أممها، وهي على شط نهر متشعب من نهر آثل، الذي أجمع السواحون والمؤرخون وقطاع المناهل، أنه لم يكن في الأنهر الجارية، والمياه العذبة النامية، أكبر منه، وهو يأتي من بلاد الروس، وليس له فائدة سوى اغتيال النفوس، ويصب في بحر القلزم، وكذلك جيحون وسائر أنهار العجم ونهر سيحون، مع أن بحر القلزم محصور، وعليه بعض ممالك العجم تدور، مثل كيلان ومازندران، وأستراباذ وشروان، واسم نهر سراي سنكلا، ولا يقطع أيضاً إلا بالمراكب، ولا يثبت عليه قدم لراجل أو راكب، وكم فرق تتفرق من ذلك البحر العريض الطويل، كل فرق أعظم من الفرات والنيل .[ 5 ]
.
.
وفاة بركة خان يرحمه الله :
.
.
فيها توفّى بركة خان بن توشى  بن چنكز خان ملك التّتار، هو ابن عمّ هولاكو المقدّم ذكره، وكانت مملكته عظيمة متّسعة جدّا وهى بعيدة عن بلادنا وله عساكر وافرة العدد، وكان بركة هذا يميل إلى المسلمين ميلا زائدا ويعظّم أهل العلم ويقصد الصلحاء ويتبرّك بهم. ووقع بينه وبين ابن عمّه هولاكو، وقاتله بسبب قتله للخليفة المستعصم بالله وغيره من المسلمين؛ وكان بينه وبين الملك الظاهر مودّة ويعظّم رسله، وكان قد أسلم هو وكثير من جنده وبنى المساجد وأقيمت الجمعة ببلاده، وكان جوادا عادلا شجاعا، ومات ببلاده فى هذه السنة وهو فى عشر الستين، وقام مقامه منكوتمر.[ 6 ]
.
.
ويذكر ابن كثير وفاته في هذه السنة فيقصول عنه وَهُوَ ابْنُ عَمِّ هُولَاكُو، وَقَدْ أَسْلَمَ بَرَكَةُ خَانَ هَذَا، وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَمِنْ أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جُنُودَهُ، وَكَانَ يُنَاصِحُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُ رُسُلَهُ إِلَيْهِ، وَيُطْلِقُ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولى بن جنكيزخان، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَمِنْوَالِهِ وللَّه الْحَمْدُ.[ 7 ]
.
.
-----------------
المصادر :
[ 1 ] موقف ابن تيمية من الأشاعرة
تأليف: عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود.
[ 2 ] السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك الدكتور علي محمد محمد الصَّلاَّبِّي..
[ 3 ] البداية و النهاية ابن كثير رحمه الله..
[ 4 ] المصدر السابق..
[ 5 ] عجائب المقدور في أخبار تيمور
أبو محمد أحمد بن محمد، المعروف بابن عربشاه (المتوفى: 854هـ) .
[ 6 ] النجوم الزاهرة في ملوك مصر و القاهرة يوسف بن تغري بردي.
[  7] البداية و النهاية ابن كثير..
.
.
مع التحية المَسّعُودْ هُمَٰيُونْ

الاثنين، 12 يونيو 2017


.
.
#حكيم_الاندلس #عباس_بن_فرناس
من هو؟!
هنا اورد لكم مختصر من سيرة ابن فرناس -يرحمه الله- لم يكن فقط ذا علم طبيعي بل ذا ادب وشعر وفصاحة ولغة المهم لن اطيل عليكم وانتم في رحاب
.
.
حكيم الأندلس أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس. فيلسوف وعالم
رياضييات وكيميائي، وفلكي، وموسيقى، وشاعر واديب ونحوي .
وُلِدَ فى
كورة تاكرنا (رنُدة) بجنوب الأندلس نحو (190هـ)، وينتمى إلى أسرة من البربر، ونشأ فى قرطبة، وبرع - منذ شبابه - في
الفلسفة والكيمياء والطبيعة والفلك، وانتهت تجاربه فى مجال الكيمياء الصناعية إلى اختراع الزجاج من الرمال، كما اخترع آله
لمقياس الزمن الميقاتة، كان من أعلام الشعراء الذين يضمهم بلاط الحكم بن هشام، وله بعض الألحان الموسيقية. وهو أول من
حاول أن يخترع أداة للطيران، فكانت محاولته الطيران فى الجو هي التى اشتهر بها. تُوفى ابن فرناس سنة (260 هـ) عن عمر
يناهز سبعين عامًا[1].
.
.
قال عنه السيوطي في كتابه "بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" :
ذكره الزبيدِيّ فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة من نحاة الأندلس، وَقَالَ: كَانَ متصرفا فِي ضروب من الْإِعْرَاب.[2]
.
.
ويقول الزركلي عنه :
عباس بن فرناس، أبو القاسم: مخترع أندلسي. من أهل قرطبة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الثاني ابن الحكم (في القرن التاسع للميلاد) وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273 هـ وكان فيلسوفا شاعرا، له علم بالفلك، واتهم في عقيدته. وهو أول من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها. وأراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدّ له جناحين طار بهما في الجو مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذى في ظهره لأنه لم يعمل له ذنبا، ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه. فهو أول طيار اخترق الجو.
ولبعض شعراء عصره أبيات في وصف سمائه وفي طيرانه [3] .
.
.
ولم يكن يرحمه الله ذا علم بالعلوم الطبيعية بل حتى الأدب و النحو و الشعر وهنا شئ من أخباره يرويها صاحب كتاب "طبقات النحويين و اللغويين" :
كان متصرفًا في ضروب من الآداب، وكان من أهل الذكاء والتقحُّم على المعاني الدقيقة، والصناعة اللطيفة، وكان الشعر أغلبَ أدواته عليه.
وأخبرني محمد بن عمر بن عبد العزيز قال: أخبرني ابن لبابة قال: جلب بعض التجار كتاب المثال من العروض، فصار إلى الأمير عبد الرحمن، فأخبرني أبو الفرج الفتي -وكان من خيار فتيانهم- قال:
كان ذلك الكتاب يتلاهى به في القصر، حتى إن بعض الجواري كان يقول لبعض: صيَّر الله عقلك كعقل الذي ملأ كتابه من "ممَا، ممَّا"؛ فبلغ الخبر ابن فرناس، فرفع إلى الأمير يسأله إخراج الكتاب إليه، ففعل فأدرك منه علم العروض، وقال: هذا كتاب قبله ما يفسره. فوجه به الأمير إلى المشرق في ذلك، فأتى بكتاب الفرش، فوصله بثلاثمئة دينار وكساه. وكان مع ذلك يحسن علم الموسيقى، ويضرب العود، ويغني عليه.
وذكر قاسم بن وليد الكلبي وغيره من شيوخ أهل شَذُونة، قال: كان محمود بن أبي جميل عندنا غلامًا جوادًا، وكان عاملًا في أخريات أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فعمل قبة أدم بلغت النفقة فيها وفي وطائها خمسمئة دينار، فلما كملت ضربها على وادي لكة، وصنع صنيعًا جمع له أشراف الكورة، ووافق ذلك اطلاع عبد الملك بن جهور أو يوسف بن بخت ضياعه بشذونة، فاستجلبه محمود مع بياض الكورة، فشهد وشهدوا. فلما تقضى طعامهم، وصاروا إلى المؤانسة وعندهم أحد بني زرياب المغني، طلع عليهم عباس بن فرناس زائرًا لمحمود، فقام محمود إليه والتزمه، وسُرَّ جميعهم بوروده، ثم عرض عليه الطعام فطعم، ثم صار إلى المؤانسة، ودفع ابن زرياب يغني:
ولو لم يَشُقني الظَّاعِنون لشَاقَني
حَمَامٌ تداعَتْ في الدِّيَار وُقوعُ
تَدَاعَيْنَ فَا علي:
سْتَبْكَيْنَ مَن كانَ ذا هوًى
نوائحُ ما تجري لهنَّ دُموعُ
فاستعادوه الصوت إعجابًا، فأعاده. فلما تقضَّى غناءُ ابن زرياب مدَّ عباسٌ يده إلى العود، وغنَّى البيتينِ، ووصلهما من عنده بديهة، فقال:
.
.
شددتُ بمحمودٍ يدًا حينَ خَانَها
زمانٌ لأسبابِ الرجاءِ قطوعُ
بَنَى لمساعي الجود والمجدِ قبَّةً
إليها جميعُ الأَجْوَدِينَ ركوعُ
.
.
وكان محمودٌ جوادًا، فقال له: يا أبا القاسم، أعزُّ ما يحضرني من مالي القبةُ، وهي لك بما فيها من كسوتي هذه، ونكون في ضيافتك بقية يومنا. ودعا بكسوةٍ فلبسها، ودفع إليه كسوته، وكانوا يومهم كذلك، فلما حان الافتراق قال له عبد الملك بن جهور: يا أبا القاسم، هذه القبة لا تصلح لك، ولا بد من بيعها، وهي عندي بخمسمئة دينار. فقال عباس: هي لك. [4]
.
.


______________
المراجع :
[1] "الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي"
[2] "بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة"جلال الدين السيوطي .
[3] "الأعلام للزركلي"
[4] "طبقات النحويين واللغويين"
لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي
.
.
مع التحية "المسعود هُمٰيون" ❤

الأحد، 11 يونيو 2017

طبتم وطاب مسائكم أصدقائي ، انتم في رحاب العلم،  انتم في رحاب الأمة العربية العظيمة انتم أحفاد المجد الضائع،  فهل انتم كفؤ لتُعِيدوا مجد اجدادكم؟!
.
.
نحن العرب جوهر الإسلام أمة مجيدة ولا أُحقِّر أي عرق آخر،  لكن نحن من صنعنا الجمال و الأُبهة في مشارق الأرض و مغاربها،  ليس هذا فحسب بل وأبدعنا في العلوم وطورنا كل علم وفن، نحن أمة العلم و الفن، نحن أمة الثقافة، نحن أمة كل فن  نحن أمة مُبجلة،  نحن أمة وقف الشرق و الغرب حائراً أمام إبداعنا و إجلالاً لنا. وهنا سأورد لكم مقولات وشهارات الغرب لعلمائنا القدماء :
.
.
يقول "ريسون" في بحوث له عن حضارة المسلمين:
"وتوصَّل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسًا للطريقة التي سموها الشكل الفني فيحل المثلثات الكروية.
وعرفوا حامض الكبريت، استخرجوه من الزاج بوساطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة، والقلي، وطرق إذابة الذهب، وعرفوا ملح النشادر، وحجر الكي، والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب.
وكانوا يعرفون صنع الصواريخ، أخذوا سرها، من الروم، وعملوا البارود للمدافع، وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر الميلادي.
وقالوا بكروية الأرض منذ ابتداء نهضتهم، وعنوا بصنع القاشاني، وغيروا طريقة صنعه وأشكاله.
واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية، والمصابيح العربية الملونة، التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية، ونسجت هذه على منوالها، وكذلك تعلم أهل البندقية صنع المرايا، وكانت تصنع في صور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا [1].
.
.
وقد سبق المسلمون في الأندلس إلى معرفة الطباعة قبل مخترعها المشهور الألماني "جوتنبرغ" وذلك بأربعمائة سنة، فقد كان عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر، ومن أهل المائة الرابعة تكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، ثم تقدم إليه، فيبعثها إلى العمال في الجهات.
وحاول بعض المسلمين اختراع طريقة الكتابة الخاصة بالعميان، فقد ذكرت كتب التاريخ أن علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي المتوفى سنة "712هـ" وكان قد كف بصره في أول عمره، كان كلما
اشترى كتابًا لخزانة كتبه لف ورقة على شكل حرف من الحروف، ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة الكتاب [2].
.
.
وقال "سيديو":
"إن أهم ما اتصفت به مدرسة بغداد في البداءة : هو روحها العلمية الصحيحة التي كانت سائدة لأعمالها، وكان استخراج المجهول من المعلوم والتدقيق في الحوادث تدقيقًا، مؤديًا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا تثبته التجربة، مبادئ قال بها أساتذة من العرب، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصبة التي صارت عند المحدثين أداة استعملوها للوصول بها إلى أروع الاكتشافات".
.
.
وقال "دولنبر" في كتاب "تاريخ علم الفلك":
تعد راصدين أو ثلاثة بين الأغارقة، وتعد عددًا كبيرًا من الرصاد بين العرب، وأما في الكيمياء فلا نجد مجربًا واحدًا يونانيًّا مع أن المجربين من العرب فيها يعدون بالمئات.
.
.
الطب:
وكان للمسلمين نشاط جم في علم الطب النظري والتجريبي.
يقول "سنيبوس" في كلام له عن حضارة المسلمين.
"واستخرجوا من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي وهو طب العقاقير والحبوب".
ويقول "ريسون" في كلام له عن المسلمين:
"وكشف كيميائيوهم وأطباؤهم عن خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت، والكبريت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والرواند والسنامكي".
.
.
ويقول "غوتيه" في حديثه عن المسلمين :
"وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة، والدهون, والمراهم، والغول "الكحول" واللعوق، والسنامكي، والراوند، والخيارشنبر، وجوزالقيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة، واستخرجوا من العين الجريم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج".
.
.
وفي "التاريخ العام" لـ"لافيس ورانبو":
"وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يدلنا أنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة، وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة، ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى: لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد، والتجميد، والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة".
ومهما يكن من أمر فقد كان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيين، أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، كما كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب عربية إسلامية.
وكان المسلمون في الأندلس يعرفون الجراثيم، حتى كانت وقايتهم من الأمراض تشبه الوقاية المعروفة بعد اكتشاف عالم الجراثيم [3].
.
.
وتقول الدكتورة نادية شريف العمري في كتابها أضواء على الثقافة الإسلامية :

ومن الأمور الثابتة تاريخيا أن العرب هم البناة الأولون للعلم التجريبي، فبرز في علم الطب : ابن سينا وابن رشد وفي علم الحساب والنجوم : مسلم بن أحمد، وأول من نبغ في الكيمياء : جابر بن حيان، وأول من نبغ في الجبر وقدم حلولا هندسية لمعادلات من الدرجة الثانية : محمد بن موسى الخوارزمي، وأول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، واخترع محاولة الطيران : عباس بن فرناس، وأول من عارض نظرية إقليدس وبطلموس بشأن الأبعاد وكان على وشك أن يكتشف العدسة المكبرة : ابن الهيثم، وكان الذي أنشأ حساب المثلثات الحديث : البيروني وأمثال هؤلاء كثير من أعلام الفكر الإسلامي الذين كانت لهم مكانة رفيعة في العلم التجريبي في وقت كان الغرب فيه يتخبط في ظلام الجهل ويعتمد أساسا على تتبع آثارهم وترجمة مؤلفاتهم. وقد اعترف بذلك "روجر بيكون" الذي تعلم هذا المنهج في الجامعات الإسلامية في الأندلس وجاء سميه "فرنسيس بيكون" بعد ذلك ليؤكد هذا الاعتراف ويشرح هذا المنهج الذي كان أبرز دعائم النهضة الأوربية الحديثة في المجال العلمي. والقضية مستفيضة لدى الباحثين من شرقيين وغربيين. فليعلم من ذلك أن تخلف المسلمين اليوم إنما هو تخلفهم عن بعض خصائصهم الذاتية في الكشف العلمي [4]....انتهى..
.
.
-------------------
المصدر :
[ 1 ] "الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم "
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي
[ 2 ] المصدر نفسه .
[ 3 ] المصدر نفسه .
[ 4 ] "أضواء على الثقافة الاسلامية"
الدكتورة نادية شريف العمري
.
.
مع التحية المَسّعُودْ "هُمَٰيُونْ"

السبت، 10 يونيو 2017

الصورة لديوان الباشا رُسمت 1818 بواسطة مُستشرق فرنسي 
"موقف المؤرخ الجبرتي -يرحمه الله- من محمد علي باشا "
.
.
على الرغم من كراهية عبد الرحمن الجبرتي للوالي محمد علي لما رآه من ضروب العنف والاستبداد والقسوة التي وقعت في عهده، ووضْعه لأدوات الإنتاج في يده، وقيامه بإلغاء الالتزام الذي أضير منه شخصيا، فقد كانت كتاباته عنه في معظم الأحيان تتسم بالموضوعية، فأشاد بمحمد علي في بعض المواقف وانتقده في مواقف أخرى.
.
.
مواقف إشادة الجبرتي بمحمد علي
وعن مواقف إشادة عبد الرحمن الجبرتي بمحمد علي نذكر أنه أشاد بفضله في تعمير الإسكندرية ووصف ذلك العمل  بأنه من محاسن الأفعال التي عجز السابقون عن القيام بها، كما أشاد به عندما قام بتشجيع أبناء مصر من النبهاء. فذكر أنه عندما ابتكر مصري يدعى حسين شلبي عجوة آلة لضرب الأرز وتبييضه تدور بطريقة سهلة توفر على الناس جهدهم وطاقاتهم، وعمل لها مثالا من الصفيح وقدمه لمحمد علي مصنعا تستخدم فيه هذه الآلة التي اخترعها [1].
.
.
مواقف انتقاده لمحمد علي
أما عن مواقف انتقاده لمحمد علي، فعلى الرغم من أنه كان يعلم جيدا أن ذلك سيسبب له المتاعب، وقد يعرض حياته وحياة أسرته للخطر، فإنه كان جريئا وأمينا في اتهامه له، فذكر "أن من طبعه الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم" [2].
.
.
كما تعرض لموقف محمد علي من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية بالنقد، فأعرب عن تعاطفه مع رجالات الدعوة واقتناعه بآرائهم، وأبدى تبرمه من قيام محمد علي بإثقال كاهل المصريين بالضرائب لتدبير تكاليف الحملة، فقال: "وجعل على كل فدان ستة قروش وسبعة وثمانية، وذكر أنها مساعدة على حروب الحجاز" [3].
.
.
كما ذكر أن جنود محمد علي كانوا يخطفون من الفلاحين "السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك" [4]، بحجة سفرهم إلى الحجاز لدرجة أن قل اللحم والسمن والجبن، خاصة بعد أن استولى محمد علي على مواشي الفلاحين وأغنامهم [5].
.
.
إنصاف الجبرتي المؤرخ وإلى جانب ذلك، فإنه يمكن القول إن الجبرتي كان وسطا في بعض الأحيان في حكمه على محمد علي، ومن ذلك قوله: "له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه" [6].
.
.
وهكذا يتضح أن الجبرتي لم يتجن على محمد علي، بل كان منصفا في عرضه لأعماله؛ فذكر ما له وما عليه، وهذه هي إحدى شيم المؤرخ الحقيقي الذي لا يحابي ولا ينحاز لأحد مهما عظم نفوذه، ولا يغمط الحقيقة حقها مهما كانت العواقب.
.
.
وربما لو عاش الجبرتي فترة أطول وشاهد الطور الأخير من حكم محمد علي، لتغير موقفه منه، خاصة وأن الجبرتي توقف في كتابته عند عام 1236هـ/1821م، أي في وقت لم تكن فيه جهود محمد علي العمرانية والحضارية قد اتضحت بعد.
هنا طبعا الكاتب يثني على جهود محمد علي باشاولم يكن يهمه عقيدة التوحيد ومن المعلوم أن محمد علي أوعز إلى بعض الموالين له بنقد كتاب الجبرتي وتجريحه، فكتب الشيخ خليل الرجبي كتابا بعنوان : تاريخ الوزير محمد علي باشا، عرض فيه لمآثر محمد علي وأشاد بأعماله، ورد على ما جاء في كتابات الجبرتي بشأن محمد علي.
.
.
مقتل ابنه خليل وتوقفه عن الكتابة
وعلى أي حال، فإن موقف الجبرتي من محمد علي قد عرض حياته وحياة أسرته للخطر،
تعرض للخطر لانها تحدث ودون التاريخ بحق وجلب عليه الضرر البليغ؛ ففقد ابنه خليل الذي قتله جنود محمد علي في شبرا بعد صلاة الفجر بأوامر من محمد بك الدفتردار صهر محمد علي ثم ربطوه برجل حماره،  ولما أصبح الصباح عرفه الناس بما كان يحمله من دفاتر مكتوبة، وآلات لرصد النجوم والكواكب، وأخذ الناس في تناقل الخبر.
.
.
هذه من جرائم محمد علي باشا ونتيجة لحزن الجبرتي على ابنه، فقد بصره، وترك الكتابة والتأليف، وظل في داره منزويا حتى مات، يضاف إلى ذلك أن منزله بالصنادقية ومكتبته الحافلة بذخائر المخطوطات قد أحرقا خشية أن يكون فيهما أوراق أو كتابات معادية لمحمد علي [7].
.
.
ونتيجة لذلك نفر المصريون من كتابة تاريخهم الحديث حتى لا يقعوا تحت طائلة اضطهاد أسرة محمد علي كما حدث للجبرتي، وكرهت أسرة محمد علي أيضا أن يشتغل المصريون بدراسة تاريخهم، وخاصة أنهم كانوا يريدون ألا يدوَّن من تاريخهم سوى ما يروقهم، وأن يكتب المؤرخ التاريخ على الصورة التي ترضيهم ولا تغضبهم، من هنا ابتعد المصريون عن كتابة تاريخ بلادهم السياسي وأخذ بعضهم -خصوصا الذين درسوا في أوربا- في تنمية ميوله وثقافته عن طريق ترجمة بعض الكتب التي تغطي تاريخ العالم منذ أقدم العصور أو التي تتطرق إلى الأمور الثقافية والتربوية والأدبية...انتهى..
.
.
📚المصادر :
[1] الجبرتي: عجائب الآثار، القاهرة، المطبعة الأميرية، ج4، ص272.
[2] عجائب الآثار، ج3، ص342-344.
[3] المرجع نفسه، ج3، ص313.
[4] المرجع نفسه، ج3، ص369.
[5] المرجع نفسه، ج4، ص90. وللتفاصيل، انظر: د. عبد المنعم الجميعي: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابات المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، مجلة جامعة الإمام محمد بن التاريخ الذي يثبت بالحق والحقائق:
سعود الإسلامية، عدد 1، الرياض.
واللافت للنظر أنه على الرغم من أن الجبرتي كان قاهريا والريف كان على هامش حياته، فإنه كان على علم بحياة الفلاحين، خاصة وأنه كان يمتلك أرضا بقرية "أبيار" بالقرب من كفر الزيات. لتفاصيل ذلك، انظر دراسة للدكتور رءوف عباس تحت عنوان "تصوير الجبرتي للمجتمع الريفي"، ندوة "الجبرتي"، ص.413.
[6] الجبرتي: عجائب الآثار: ج3، ص528.
[7] يذكر البعض أن جزءا من تاريخ الجبرتي احترق، وكان يتضمن حوادث ما بعد سنة 1236هـ. (انظر: الشرقاوي، المرجع السابق، ص16).
✍/ الولدة المؤرخة هيام عبده مزيد...
التاريخ الذي يثبت بالحق والحقائق هيام عبده مزيد:
Telegram.me/eltareekh
التاريخ الذي يثبت بالحق والحقائق